الأدب
الإسلامي
الهموم
لا تفارق الإنسان
بقلم
: معالي الدكتور عبد العزيز عبد اللّه الخويطر / الرياض
وزير
الدولة وعضو مجلس الوزراء السعودي
خلق
الله الإِنسانَ وخلق معه الهمومَ؛ فهي لازمة له، لا تفارقه، وهو دائمًا ينتقل من
هم إلى هم، ويخرج من هم إلى هم، يتغلب على هم ليبرز له هم؛ الهمّ يناور الإنسانَ،
يأتيه من جهة، فإذا سدّه هذه الجهلة، جاءه من جهة أخرى، والهم بارع في المناورة،
والمفاجأة والمباغتة، قد يتغلب الإِنسان على هم صغير، فيطل برأسه عليه هم كبير،
وقد يتغلب عليه هم كبير فإذا انتصر عليه فوجئ بهم صغير.
والهم يأتي للصغير والكبير، وللرجل
والمرأة، وللغني والفقير، وللقادر والعاجز، وللحضري والبدوي، وللعالم والجاهل،
وللحاكم والمحكوم، وللقوي والضعيف، وللعاقل والجاهل، وللذكي والغبي؛ لا ينجو منه
أحد، ولا يسلم من ثقله إنسان.
والهم حمل ثقيل، وعبء باهظ سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، لأنه يبدو
أن الله – سبحانه وتعالى – قد وضع في ذهن الإِنسان حيِّزًا معيّنًا، ليكون وعاءً
للهموم إذا نزلت، وهذا الإِناء يمتلئ بالهم صغر الهم أو كبر؛ إن الهم يملأ هذا
الإِناء، فإن كان الهمّ كبيرًا ضغط نفسه، ليستكمل داخل الحيز، وإذا كان صغيرًا
انتفخ وملأ الحيز، فبمجرد ما يتبين من الحادث أنه هم يستعد الحيّز لاستقباله،
وتبدأ جميع الحواس للعمل عليه، ومن أجله، ويصل صدى عملها إلى أجزاء في الجسم لا
دخل لها بالذهن، ولكن تتجاوب معه، لأن الله – سبحانه وتعالى – ربطها به.
فإذا انشغل الذهن بشيء صار التركيز عليه، وجاء في بؤرة التفكير،
وانزوتِ الأمورُ الأخرى في الهامش، وتراجعت إلى الحاشية، حتى لا يكاد يشعر بها، أو
يدري أنها موجودة، وقد تكون في الماضي القريب همّاً ملأ السمع والبصر، وأخذ حيّز
الذهن بكامله، وإذا انشغل الذهن بهمّ ما تصرفت الأعضاء الأخرى والملكات تصرفًا
منفصلاً عن المركز والبؤرة، وقد يصل تأثير التفكير إلى بعض أجزاء من الجسم فينبهها
التنبيه الضار؛ لأنه أعملها أكثر من طاقتها، أو أخرجها عن النطاق المسموح لها به.
فعمق التفكير قد يجعل الأيدي والأرجل تتصرف مستقلة عن الذهن،
خلافًا للعادة، ولعملها الطبيعي؛ فقد تسير رجل الإِنسان به إلى غير الوجهة التي
يريدها، فإذا ركب أداة من أدوات الاتصال والسير وجهته الشرق، فقد يجد نفسه في
الغرب، وإذا كان في يده ورقة مهمة فقد يسهو عن التركيز عليها؛ لأن الهم صرف ذهنه
إلى شيء آخر، ثم لا يلبث أن يجد أنه مزّق هذه الورقة، أو مصغها:
أذكر أننا ونحن طلاب في البعثة في مصر، وكان وقت آخر الشهر،
وكانت شمس المكافأة، التي نستلمها، في رؤوس العسبان، كما يقول المثل الدارج، وكان
اليوم يوم خميس، وهو يوم العطلة للطلاب في أن يخرجوا للفسحة مساءً، ويتناولوا
عشاءهم خارج دار البعثة، وهو محسوب لهم في المكافأة.
وفسحة مساء الخميس معروف محتواها: عشاء وسينما وفسحة على النيل،
والسينما تختار على أساس أن الفيلم جديد، وفي سينما وسط البلد، وهذه تكون غالبًا
غاليةً، وعليها ازدحام يحتاج إلى حجز مسبق، ولا يقدم عليه الطالب إلا في أول
الشهر، أو مدعوًّا من قبل قادم من مكة "مقرش"،
أو أن الفيلم قديم فاتت رؤيته عندما كان في وسط المدينة، وانتُظر حتى انتقل إلى
الضواحي، أو سبق أن رؤى داخل المدينة، واشتيق إلى رؤيته مرةً أخرى.
وكنا في ليلة من ليالي الجمع، مساء الخميس، خمسة طلاب، أربعة من
القاهرة، وواحد من الاسكندرية، وهذا الذي من الاسكندرية ضيف وفد علينا، ولابدّ من
إكرامه، كما كان يكرمنا عندما نزوره، وإن كان في الغالب يكرمنا على حسابنا ومن
جيوبنا، ويغالطنا في المصاريف، ويظن أننا لانعلم ونحن نعلم، وإن كان لايهمه أن
نعلم أو لا نعلم؛ فالمبلغ خارج من جيوبنا خارج، وقد قرأنا عليه السلام، وهمنا الآن
في طلب الدفعة الثانية، وإلحاحه عليها.
ومن جملة مغالطاته – حفظه الله – أنه كان يركبنا في الترام في
الاسكندرية، ويأخذنا إلى الطابق الأعلى، ويدّعى أنّ هذا هو الدرجة الأولى، والقيمة
فيها مضاعفة، وكنانغمض عيوننا، أملاً في خدمته لنا، وأجرةً لضيافته لنا فإسكانه
لنا في شقته، وأملاً في السلامة من مقالبه، التي غالبًا لانسكت عليها، ونكيل له
الصاع صاعين فيها، وهذه من كثرتها وطرافتها تستحق أن يكتب عنها منفردة .
فكرنا بإكرام ضيفنا الذي
تخرج فيما بعد طبيبًا، واستقرّ الرأيُ على أن نقضي الأمسية بالذهاب إلى
شبرا؛ لأن هناك فيلمًا جميلاً انتقل إليها من داخل المدينة، وبعد السينما نعشى "سندويتشات"
في أحد الأماكن المشهورة بساندويتشات الكِبَد والكلاوي (على الواقف). وهذا يعني أن
علينا أن نوفر نقودًا لخمس تذاكر للسينما، وقريشات للعشاء، ومبالغ لتذاكر الذهاب
والإِياب في الترام. وبعد جهد؛ لأننا في آخر الشهر، استطعنا أن نوفِّر المبلغ،
ورغم توفره ظاهرًا إلا أنه نقص عن أن يوفر تذاكر إلى باب البعثة في العودة، وهذا
يقتضي أن نسير كيلين أو ثلاثة على الأقدام في آخر الرحلة، وفي وقت متأخر من الليل.
وذهبنا، ودخلنا السينما، وأكلنا السندويتشات، "وقطعنا"
تذاكر العودة، وركبنا الترام، وجعلنا التذاكر مع أحدنا، وهو _رحمه الله – كان
طالبًا في كلية العلوم، والكلية جادة، وهو جاد أيضًا، وهموم الدراسة تتوالى عليه،
فمن هم إلى هم، ويبدو أن التفكير أخذ منه مأخذًا، استولى فيه على كل حواسّه، فأخذ
دون شعور منه يقطع التذاكر إربًا إربًا، دون أن يدري ما يفعل، وكنا في غفلة عنه،
نرقب عملية سرقة يقوم بها طفل أدخل نفسه في الجانب الأيسر من الترام، تحت أرجل
الركَّاب، كما هي عادة النشّالين الصغار، وأخذ يعبث بجيوب ضيفنا كلما وجد الفرصة
سانحةً، فنبهنا، بحركة خفية، ضيفنا، فتبيَّن أنه متنبه؛ وبمجرد أن وقف الترام ركل
الضيف النشّال الصغير بقدمه، فهرب مغتنمًا السلامةَ، ولم يدر أنه لم يسلم، فجيوبُ
ضيفنا كانت خاويةً على عروشها قبل أن يخرج من البيت، وانتهز ضيفُنا فرصةَ انشغال
اللصّ الصغير الظريف بتفتيشه، واهتمامه الشديد بذلك؛ فأخذ الضيف يعبث بجيوب اللصّ
بسلام، وأخذ قريشات و"مطوى"،
"مقلمية"
مبراة، وغنمها، وسرق المسروق السارق، وكانت حادثة طريفة، وقد فرحنا بهذه الثروة
التي نزلت علينا من سماء جيب النشّال.
وفي هذه اللحظة جاء المفتش الذي يتأكد من أن كل راطب معه تذكرته،
والتفتنا إلى الذي معه التذاكر، وهو الذي يلي الجهة التي يأتي منها "الكمساري"
قاطع التذاكر، والمفتش الذي يتأكد منها، وإذا بأخينا – رحمه الله – يبرز يده لنا،
وفيها نثارة كأنها حبَّات الرُّزّ، لقد قطّعها قطعًا صغيرة حتى لم يعد لها صلة
بالتذاكر، فاضطررنا أن نستفيد من مال السرقة – غفر الله لنا – ولكنه ثوب شامر، لا
يستر العورة ، ولا يكفي إلا للمسافة التي قطعنا إلى "ميدان
المحطة"،
ومشينا بقية المسافة إلى الروضة، أميال وأميال؛ واللوم يُقذف ذات اليمين وذات
الشمال، لائم يلقي باللوم على ممزّق التذاكر، ولائم يلقيه على مدخل مال الحرام على
مال الحلال فأركسه، ومعتذر يلقي اللوم على الذين كانوا يشجعون على "عملية
النشل"
هذه، والآن يتنصلون منها، ولائم يلوم نفسه على أنه جاء مع هذه الشلة سيئة الحظ،
وآخر يرد بأن يحمد الله فلن يجد أحسن منها، فغيرها لم يحظ بالسينما والسندويتش
اللذيذ، وآخر يكابر ويقول "طلع
بنكده"
بهذا المشوار، الذي أبلى الحذاء، وهذا مهم، وأضاع الوقت، وجلب التعب، وعندما وصلوا
دار البعثة منهكين متعبين مجهدين جائعين ناعسين انفجروا ضاحكين، وادخروا ما حدث
للذكرى، وها هو يذكر.
استطردنا ونحن نحاول أن نضع صورةً لعمل الأعضاء منفردة عن الذهن
المركز على همّ من الهموم، وقد رأينا أثر ذلك واضحًا على التذاكر التي مُزِّقت شر
مُمزَّق.
وأحيانا تعاني المعدة من جراء الهمّ الذي ينزل بصاحبها، والتفكير
الذي يأخذ عليه كل تركيزه؛ فتزيد عصارة المعدة وتؤذي جدرانها، وهي مادة كاوية قد
تحدث قرحة يأتي منها أكبرُ هَمٍّ، فيصبح الإِنسان في هم متعدد الجوانب.
وأحيانًا تتأثر بعض الغدد المفيدة من جراء الهمّ، فلا تقوم
بعملها، وتأتي للإِنسان بأمراض تكون همًا جديدًا، فضعف الغدّة التي تزن حرق السكر
تتسبب في داء السكري الذي لايكاد جزء من الجسم يسلم من أذاه.
وهكذا يصبح حال كل جزء من الجسم يهمل، أو يجار عليه من جراء الهم
الذي ينصرف إليه التفكير دون شعور، فيخرج الإِنسان من طور إلى طور، ومن حالة إلى
حالة، ويصير أحيانًا شخصًا آخر غير من يعرفه الناس.
والناس في الهمّ يختلفون فكل همّه بقدر همته ومستواه في الثقافة
أو المجتمع، فما يهم شخصًا عاديًا قد لايحرك شعرة في إنسان مثقف، أو ذا منصب
وهيئة، وقد يعجب الإِنسان من بعض الناس وهمهم، وما يقلقهم مما لا يعتبر عند الرائي
أنه يستحق أن يأخذ من تفكير المعاني ما أخذه.
ولدي مثل طريف عن إنسان ربما يوصف بأنه أقل من العادي، إذ أن
تفكيره لم ينم مع جسمه نموًا متناسقًا، فأصبح ذهنه متأخرًا عن جسمه. وتعيّن فراشًا
في إحدى المدارس، واعتاد أن يزورني، لصلة قديمة لي معه، في يوم معين من الأسبوع،
وفي يوم من الأيام اتصل بي هاتفيًا، وهو عادة لا يستأذني في المجيء، وإنما يشعرني
بعزمه على المجيء، وحدّد وقتًا لزيارة كان سيقوم بها لي لأمر مهم؛ وجاء، وهو في
حالة غضب متناه، وقصّ علي القصةَ، ولم أكد أصدق أن هذا هو ما أهمه وأقلقه، واضطره
أن يأتي في منتصف الأسبوع بدلاً من نهايته كالمعتاد:
قال لي إن فلانًا المدرس في المدرسة يزعجتني كثيرًا، وأريدك أن
تفصله حالاً، حتى أرتاح من أذاه؛ لأنه يحتاج إلى تأديب، ومثل هذا لايصلح معه إلا
الطرد.
فسألتُه عما فعله، ولدهشتي البالغة أجاب:
"إني
عادة أبدأ صبّ الشأي للمدرسين في غرفتهم أثناء الفسحة، وقبل أن أصل إلى المنتصف
يكون هذا المدرّس قد أنهى فنجان الشأي، فلا يصبر إلى أن أعطي المدرسين الباقين،
وإنما يناديني للأملأ فنجانه مرة أخرى، فإذا لم أستجب يبدأ يقرع الصينية بالفنجان،
ويقلقني ويقلق الآخرين، وقد هددته بأنّي سوف أشكوه لوزير المعارف رأسًا، وأنه مطّ
شفتيه استهتارًا، وزاد في القرع والأذى، والآن ليس له إلا الطرد.
فأقنعتُه بأني أستطيع أن أجعله يقلع عن هذه العادة، وأن يعتذر
إليه، لأن طرده سوف يضرّ بأولاده، وهم لم يؤذوه، بل قد يكونون في أذى من والدهم،
وأنه يقرع لهم الفنجان مثلما يقرعه لك، وسوف أيضًا ننذره "ومن
أنذر فقد أعذر".
فهدأ روعه، وقبل الفكرة، وطبعًا اتصلتُ بالمدرس، ومن حسن الحظ
أني أعرفه جيدًا، فأسرف في الاعتذار إليه، وأجاد فيما بعد حسن المعاملة، ورضي عنه
رضى أزال ما بنفسه، ولكن همومه لاتنتهي، وكلما انتهى همّ بدأ هم؛ حتى لما تقاعد
أصبح همه عن بعض ما يسمع عنه أو يراه في التليفزيون، وأحيانًا همومه تكبر مع هموم
المسلمين في العالم مثل أمور الأفغان أو الصومال أو البوسنة والهرسك، وعنده دائمًا
الحل على وزن حل مشكلته مع المدرس، حلاً جازمًا مستحيلاً!
هذا هم صغير عند بعض الناس؛ ولكنه كان همّا كبيرًا عند آخرين:
وهموم الكبار كبار، وفي كتب التراث منها الكثير، وسوف نأتي ببعض
أمثلة عنها، فهي توضح الفكرة، وتحدد مستوى الهم.
هم الحاكم نهضة بلده، وحمايتها، ونشر العدل
بين رعيته، واستتباب الأمن، وتوفير الرخاء، وتعميم العلم، وتأمين الغذاء والصحة،
وإيجاد ازدهار التجارة والزراعة، ورعاية المهن، والاهتمام بأمور الشباب والكهول،
والرجال والنساء والصغار، ويأتيه الهم عندما يختل جانب من هذه الجوانب، ويكبر
الصغير في عينه حتى يعالجه؛ والحاكم أقرب الناس لملازمة الهم له، ومكابدة هجماته،
وتوقع نزلاته.
وهناك حاكم من حكام الهند، كان مهتمًا بأمور رعيته، يتابعها
بنفسه، وينظر إليها بعينه، ويصغي لها بسمعه، هجم عليه هم أقلقه؛ ولكنه سرعان ما
أزاح كلكله عنه:
يقول محمد بن الوليد الطرطوشي:
"ولقد
بلغنا أن ملكاً من ملوك الهند نزل به صمم، فأصبح مسترجعًا، مهتمًا بأمور
المظلومين، وأنه لا يسمع استغاثتَهم، فأمر مناديه ألا يلبس أحد في مملكته ثوبًا
أحمر إلا مظلوم، وقال:
لئن منعتُ سمعي لم أمنع بصري، فكان من ظُلم لبس ثوبًا أحمر، ووقف
تحت قصره، فيكشف ظلامته".(1)
هم كبير أزاحه فكر ثاقب، ونية حسنة، وحب لشعبه خالص، فلم يستسلم
للنازلة، ولم يتركها تأكل من جدار معدته، أو تصيب رأسه بالصداع، وأخلق بالكبير
صاحب الهم الكبير أن يكون حمله كبيرًا.
ونية الحاكم مهمة؛ فهي تلعب دورًا كبيرًا في نجاح الأعمال،
والتغلب على الصعوبات، وقد قيلت في هذا أقوال حكيمة.
قال وهب بن منبه:
"إذا همّ
الوالي بالجور، أو عمل به، أدخل الله النقص في أهل مملكته، وفي الأسواق والزرع
والضرع، وكل شيء؛ وإذا همّ بالخير والعدل، أو عمل بــه، أدخل الله البركة في أهل
مملكته كذلك" .(2)
وهناك قصة في هذا المعنى، قد تكون رمزية، صيغت بهذه الصفة، حتى
تؤدي دور الموعظة:
"روي
أن أبرويز نزل بامرأة متنكرًا، فحلبت بقرة لها، فرأى لبنًا كثيرًا، فقال للمرأة:
كم يلزمك في السنة لهذه البقرة للسلطان؟
قالت: درهم واحد.
قال: وأين ترتفع؟ وبكم ينتفع منها؟
قالت: ترتفع في أرض السلطان، ولي منها قوتي وقوت عيالي. فتفكر في
نفسه وقال:
إن الواجب أن تجعل أتاوة على الأبقار، فلأصحابها نفع عظيم منها.
فما لبث أن قالت المرأة:
أواه، إن سلطاننا همّ بجور.
فقال لها أبرويز: ولم قالت [ذلك].
قالت: إن درّ البقرة انقطع، وإن جور السلطان مقتض لجدب الزمان،
كما أن عدله مقتض لخصب الزمان.
فأقلع أبرويز عما همّ به، وتاب مما خطر بقلبه، وكان بعد ذلك
يقول:
إذا همّ الإِمام بجور ارتفعت البركة".(3)
وقد يأتي همّ الحاكم وسط الليل من كلمة سمعها، أو خطرت في باله،
فتدبرها، فأقلقه أحد مراميها، وقد يكون ذلك وهمًا؛ ولكن لابد من تبديده حتى يرتفع
أذاه، وينزاح ثقله، وتبرد جمرته، وتخمد صيحته، ويخبو وقوده:
قال يزيد بن مزيد:
"أرسل
إليّ الرشيد ليلاً يدعوني، فأوجستُ منه خيفةً؛ فقال:
أنت القائل أنا ركن الدولة، والثائر لها، والضارب أعناق بغاتها؟
لا أمّ لك! أي ركن لك؟ وأي ثائر أنت؟، وهل كان منك إلا نفجة أرنب رعبت [منها] قطاة
جثمت بمفحصها؟
قال: قلت: يا أمير المؤمنين، ما قلتُ هذا، إنما قلت: أنا عبد
الدولة، والفائز بها.
فأطرق، وجعل ينحلّ غضبه عن وجهه؛ ثم ضحك فقلت: أَسَرُّ من هذا
قولي:
خلافـة الله في هـارون ثابتـة
وفي بنيـه إلى أن ينفخ الصـور
إرث النبي لكم من دون غيركُم
حق من الله في القرآن مسطور
فقال: يا فضل: أعطه مئتي ألف درهم قبل أن يصبح".(4)
كلمات بلغ الرشيد أن أحد رجال دولته النابهين قالها، شم منها
رائحةً أعطسته، فلم ينم معه همها، بل أحضر صاحبها، فحلّ عُقَد هذا الهم، وزاد بما
أوجب إعطاءه إكرامًا.
ولكن الهم وإن زال في بعض الأحيان مع الحاكم لايخلو من ذيول تبقى
تسحب خلف الأمر، وقد حدث هذا مع الرشيد أيضًا:
"غضب
الرشيد على عبد الله بن مالك، ثم اتضحت له براءته، فعفا عنه. وكان عبد الله يرى
فيه بعض الانقباض، فقيل له:
إن عبد الله يشكو أثرًا باقيًا من تلك النبوة.
فقال: إنا معشر الملوك إذا غضبنا على أحد من بطانتنا، ثم رضينا
عنه، بقي لتلك الغضبة أثر لا يخرجه ليل ولا نهار".(5)
ويكشف زياد بن أبيه عن مصادر الهم عنده فينبِّه حاجبه إليها،
والذي يهمنا من النص الآتي أمران، هما اللذان يمكن أن يأتي الهم والقلق منهما
وهمًا: "صارخ
الليل لهمّ دهاه، وصاحب البريد"؛
أما الصلاة والطعام، فتوجبان الاهتمام وليس الهم:
قال زياد لحاجبه:
"وليتك
حجابتي، وعزلتك عن أربع:
المؤذن للصلاة، وصاحب الطعام؛ فإن الطعام
إذا أعيد سخنهُ فسد، وصارخ الليل لشر دهاه، وصاحب البريد، فالتهاون بالبريد ساعة
يخرم عمل سنة".(6)
الأمران اللذان اهتم بهما زياد من بين الأربعة لا يأتيان
بانتظام، ولا في وقت معين، أقل ما فيهما من الإزعاج أنهما يتسببان في إيقاظه من
النوم، وقد لا يسمحان له بالعودة إليه من هول ما حملا مما لم يكن يتوقعه.
ونموذج لِهَمِّ الحاكم عندما يكون ملتفتًا لأمر مهم، فيعترضه
معترض، يفسد عليه حماسه، أو بلوغ غايته فيما قصده، وهيأ نفسه لنيله، وهذا يتمثل في
القصة الآتية:
وحدّث أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء
قال:
خطب ابن الزبير، فاعترض له رجل، فآذاه بكلمة، ثم طأطأ الرجل
رأسه؛ فقال ابن الزبير:
أين المتكلم؟ فلم يجبه.
فقال: "قاتله
الله ضبح ضبحة الثعلب، وقبع قِبعة القنفذ".(7)
إن همّ عابر، وإقلاق موقت، اضطر ابن الزبير أن يقطع الخطبة وأن
يلتفت إلى صاحب الكلمة، وأن يصفه بالوصف الذي لا بد أنه تمنى أن لم يكن أجبر عليه،
لأنه أبدى حياله غضبه، وهو ما يضعف موقف الخطيب، خاصةً إذا كان حاكمًا.
وهذا الموقف عابر، وهمّه صغير؛ ولكنه أخذ كل حيّز الهمّ عند ابن
الزبير، وصرفه عن الخطبة التي هي همه الأساسي في هذا الموقف الجاد.
ويأتي هم آخر منقطع، والجانب الأكبر منه شخصي؛ ولكنه يلمس في
جانب منه الحكم، ويكون في الجانبين الشخصي والدولي همّ وأي هم:
قال أبوالحسن المدائني:
لما شدَّ عبد الملك أسنانه بالذهب قال:
"لولا
المنابر والنساء، ما باليتُ متى ما سقطت".(8)
هذا همّ صغير، ولكنه بغياب غيره كبير؛ فهو في الهامش عند قيام
ثائر، أو حدوث فتنة، أو خروج خارج، أو خبر سيء من الثغور. أما وكل ما حوله هادئ؛
فهذا الهم الصغير يأتي في بؤرة الشعور، وفي مقدمة الذهن في التفكير.
ومن المضايقات التي يتعرض لها الحاكم بعض المواقف الغبية
المفاجئة؛ لأنها تستوجب ظاهرًا الصبر، وإطالة البال، والحاكم في داخله يغلي، وما
بين الداخل والخارج مرجل همّ يكاد ينفجر.
قالوا :
ومن النوكى ربيعة بن عِسْل، أحد بني عمرو ابن يربوع، وأخوه صبيغ
بن عِسل. وفد ربيعة على معاوية، فقال له معاوية:
ما حاجتك؟
قال: زوِّجني ابنتك.
قال: اسقوا ابن عِسل عسلاً.
فأعاد عليه، فأعاد العسل ثلاثاً، فتركه وقد كاد ينقد بطنه.
قال: فاستعملني على خراسان.
قال: زياد أعلم بثغوره.
قال: فاستعملني على شرطة البصرة.
قال: زياد أعرف بشرطته.
قال: فاكسني قطيفة، أوهب لي مئة ألف جذع لداري.
قال: فدارك في البصرة، أو البصرة في دارك".(9)
احتاج معاوية إلى صبر أيوب مع هذا الأحمق الذي تدرَّج في الطلب
من طلب يد ابنة الخليفة إلى الاقتناع بالقطيفة، ومن الولاية إلى خشب يسقف به بيته،
وطلبه كثير يبنى سقوف بيوت البصرة كلها. ورغم أن معاوية تحمّله طولَ الوقت
بسخافاته وحمقه، إلا أن معاوية خابثه بسقيه العسلَ حتى كاد ينفجر بطنه. وهذا يري
مدى حنق معاوية المكتوم، وهمّه الثقيل الذي جلبه هذا.
هذه بعض مظاهر الهموم في التراث، اختيرت مُمَثِّلَةً لبعض
الجوانب ولم نقترب من الهموم الكبرى للحكام؛ فهذه لا حصر لها في صفحات التاريخ.
* * *